الأربعاء، 22 فبراير 2017

الحوّيطة

"هل نسيت؟ هل نسيت دورانك السبع دورات تلوى السبع على سيدي البارودي تتوسل به ليرزقك ربنا مولودا؟ هل نسيت لهثك وراء أتربة الأولياء؟" هكذا قالت صفية لرحمون وهي تمخض عكة اللبن..أما رحمون فلم يقل شيئا. بيده الفأس التي تخلخل رأسها فراح يشدها بخيوط خيش.
- "ألا ترأف بحال ابنتك؟ ثم انها لم تطلب منك الشيء الكثير، فستان السلطان فقط، فستانا واحدا يا رجل، هل هذا كثير؟" قالت.

- " قلت لك لقد بحثت عنه في كل مكان، في كركيطا ، في سوق الأربعاء وحتى أنني ذهبت لواد الصباح، ألا تفهمي؟ إفهمي يا مْرا !! "
رحمون يكذب..كلما استعمل عبارة يا مرا كان كاذبا.
" لقد وعدني السينكو أن يأتيني به من مالونغا، انه ذاهب لزيارة أهله في وجدة، سيأتيني به من مالونغا"
رحمون لا يكذب هنا وصفية تعلم جيدا أن مالونغا مكان بعيد والسينكو تاجر كثير التجوال.
خارج البيت، داخل الزريبة كانت عْوَالي بنت رحمون مقرفصة تمسد بيدها على قائمة البقرة كي تهدأ علّها تفكّ حزمة العلّيق التي التفّت وأعاقت مشيتها...البقرة تدير رأسها مرة بعد مرة تشم المخلوق الذي يتحسس قائمتها ...فكّت عْوَالي ربطة العليق وتحررت البقرة وصاحت عْوَالي " يجيب لك حمّى !!!"...عْوَالي لم تكن تقصد البقرة بل نبتة العليق التي انحشرت ما بين اصبعها والخاتم...نزعت عْوَالي جزء النبتة الذي علق بالخاتم...نزعت الخاتم، أدارته بإصبعيها أمام عينها، تأملته وجلست .
كان خاتما نحاسيا أهدتها إياه جدتها في الليلة التي جرى الدم بين ساقيها لأول مرة...قالت جدتها وهي تضع قبلة على خدها " نضجت الثمرة وحان القطاف"...أعادت عْوَالي الخاتم بإصبعها واشاحت بيدها خصلة شعر كانت منسدلة على جبينها وخرجت من الزريبة.
جدول سيدي البارودي المبارك يهدر غير بعيد عن البيت، يقولون أن منبعه يوجد في باليغون، ويقولون بعيدا جدا عن ماداغ، ولكنهم لم يقولوا أبدا أنه من الجنة. قالت الجدة " نذهب للدوار نبارك بختة بنت الرماسي مولودها الجديد" لذلك لبست عْوَالي فستانها الزعفراني ذي الفتحة المطرزة بالمرجان ووضعت فولارتها البنية تاركة خصلة شعر يميل لونه إلى الصفار ظاهرة للعيان...لأجل لون شعرها ينعتونها "الروخة".
خرجت الجدة تتبعها عْوَالي .
عْوَالي نعلها أزرق شفاف يظهر منه لون الحناء الاسود...لا أحد يحسن طلاء الحناء كجدة عْوَالي حيث تضيف للحناء مسحوق نبتة القُضَّيْم وقليل من الشب و جذور نبتة لا يعلمها إلا هي. ولقد تحايل عليها الكثير من سكان ضيعة سيدي البارودي أملا في الحصول على مكونات الخلطة إلا أنها أبت ان تمدهم بها بحجة أنها حكمة توارثتها ومن العيب أن تفشي السر.
2
أسفل البيت وفي عرض جدول سيدي البارودي المبارك تمتد على استقامة واحدة خمس صخرات ملساء كقنطرة لعبور الجدول ، الوسطى منها بالكاد تظهر على سطح الماء تغطيها طحالب ملساء وكومة أشنة السبيروجيرا . في الضفة اليمنى من الجدول خرجت ثلاث سلاحف صغيرة لتأخذ حمامها الشمسي ثم ظهرت سلحفاة تبدو عجوزا وأخذت مكانها بالقوة في وسط الثلاث الأخريات . في الوقت الذي كانت عْوَالي والجدة تهبطان التلة نحو الجدول فكرت أصغر السلاحف في الغطس لتلتهم ما على الصخرة الوسطى من طحلب ...سمعت السلاحف وقع الخطى فصاحت أصغرهما " آآآخ، آآآخ" وقفزت غاطسة ولحقت بها السلحفتان الصغيرتان دون معرفة سبب تنبيهها، أما السلحفاة العجوز فبقيت في مكانها هازة رأسها ساخرة من عبث الصغار.
عبرت الجدة عرض الجدول دون النظر إلى الصخرات أما عْوَالي فما إن لامس نعلها الأزرق البلاستيكي الطحلبَ على الصخرة الوسطى حتى تلاشى الاحتكاك وارتفعت ساقُها إلى الأعلى مسافة متر وارتطمت مؤخرة رأسها بالصخرة الثانية... وراح الماء يتسلل عبر كل الثقوب في جسمها البض المكتنز...
أما السلحفاة العجوز فاكتفت بمشاهدة ما يحدث.
هرعت الجدة نحوها صارخة ...ولم تتلق منها سوى شخرتين وكومة زبد أبيض بفمها...حملتها وعادت إلى البيت وجاء عمي العكّرمي وقال " لا جهد إلا جهد الله، أخذ صاحب الأمانة أمانته".
ماتت عْوَالي.
قالوا بختة العمرية هي التي عملت لها عملا في السدرة المقابلة لقنطرة سيدي البارودي. وقالوا ان عروسة السماء كانت تغار من عْوَالي لذلك اختطفتها وقالوا أن سيدي البارودي اختارها لابنه...قالوا كثيرا عن غياب عْوَالي ووحدها السلحفاة لم تقل شيئا.
3
رحمون يعود بعد غياب يومين وفي طريقه متجها نحو بيته يلتقي كحْلالة. "تأتي معي إلى الدوّار" يقول كحْلالة ويُخرج من تحت جلابيته قنينة خمر. يتحسس رحمون فستان السلطان الأحمر تحت إبطه ويرافق صديقه الحميم نحو الدوار..."ستظن صفية أني ما زلت أبحث عن الفستان" هكذا فكر رحمون مبررا مبيته عند كحْلالة يسكران.
انقضت ليلة السكر في الدوار وانقضى كل شيء...وعاد رحمون إلى بيته وكان كل شيء قد تم وانقضى مثلما قلنا في بداية الجملة.
اسودت سماء رحمون وغزت الظلمة الوجود ولم يبقى نورا في عيني رحمون سوى فستان السلطان أحمر اللون مكوما تحت إبطه. اعتلى رحمون رابية مقابلة لقبة سيدي البارودي جلس قريبا من شجرة سرو أخرج الفستان الأحمر وراح يمتهن الصمت.
كان سكان الضيعة يمرون عليه ويواسونه ببعض الكلمات وبعد أن شاع أمره أصبح زوّار سيدي البارودي يقفون عنده يربّتون على كتفه ويتأملون الفستان الملقى على ركبتيه. قالت إحدى زائرات سيدي البارودي ان ابنها كان عازفا عن الأكل ومن يوم ان ربتت على كتف سيدي رحمون أصبح ولدها يأكل كالثور، وردّت عليها محدثتها أنهم يقولون ان دعوته تخترق سبعمائة ألف حجاب.
أما المرأة التي أتت من عمق الصحراء فقالت انها نذرت نذرا أن تزوره مرة كل شهر لأن بركته وبركة الفستان الأحمر هما من سهلا الطريق لابنتها نحو الزواج.



4
لا أحد بمقدوره تفسير ما حدث صبيحة ذاك الإثنين الباهت.
مياه الجدول خف هديرها وكان الحزن يتموّج في الحواشي. السلاحف أضربت عن حمامها الشمسي و تكومت أكبرها عميقا عند منبت القصب ..أما انثى الجعران فقد قابلت ذكرها غاضبة "اين كرة الروث؟ الم تأت بكرة الروث؟
قال: لن يكون هناك كرات بعد اللحظة، سنكون ارستقراطيين كما وعدتك وقد قررت مقاطعة القاذورات ولن أتبع مسير الشمس بعد الآن...من اللحظة هذه لست جعران روث، أنا الآن ارستقراطي.
أما اليعسوب فقد حذر قبيلته ان امرا جللا حدث ولم يعد احد يهتم لحركاتنا البهلوانية على سطح الجدول ..يقولون ان البشر صنعوا يعسوبا من حديد...لا مقام لكم هنا ..لم يعد سيدي البارودي يحميكم.
لم يفهم أحد من أهل الضيعة سبب صمت قطيع الماعز ولا تكوم ديك بنت اعمرتحت شجيرة العوسج.
قال العكّرمي للجماعة " لطالما حذرته ..كم مرة قلت له لا تجلس عند ملتقى الشمس والظل..كم مرة نصحته بتغيير مكان جلوسه واقترحت عليه أن آتيه بجلد خروف يجلس عليه تحت ظل شجرة الخروع إلا انه عنيد، بقي على حاله مقرفصا ما بين النور والظلمة...والله حذرته من عرائس السماء."
- "اختطفته عروس السماء إذا " قال كحْلالة
- ومن غيرها؟ رد العكّرمي
قال أصغر من كان في الجماعة بعد أن سوى عمامته المغبرة " كان كل ليلة بعد ان تطير الهامة لتمارس صيدها يحمله اثنان ويأخذانه عبر سلم معلق بالهواء نحو قبة سيدي البارودي...أقسم بالله أنني رأيت ذلك في ليلة من الليالي خرجت فيها لأتبول أعزكم الله"
أدار كل من كان حاضرا وجهه نحو مكان جلوس رحمون ثم نحو قبة سيدي البارودي يقيس المسافة ويتخيل السلم معلقا في السماء.
صمتَ الكل.
قالت إحدى زائرات مقام سيدي البارودي على كتف من أربت الآن؟ وهل ستبقى ابنتي عانسا؟ ردت عليها إحداهن " قالوا سيظهر في اليوم الثالث وسيتناول عشاءه مع سيدي البارودي" غير أن اسابيع ثلاثة مرت ولم يظهر رحمون.
5
غاب رحمون. يقولون اختُطف ويقولون هاجر إلى مالونْغا أما فْقيه الدوّار فأكد لهم ان الملائكة الكروبيون رفعوه مثلما حدث لسِيدْنا دْريس وسيرجع ليحرس الأقاليم الأربع...هكذا قال الفْقيه...هزّ الحضور رؤوسهم وكانت هالة القداسة تظلل مجمعهم...أما أبناء حمادي الثلاثة فقد اتفقوا أن ملقاهم سيكون عند السدرة المباركة وقتما تطير الهامة.
عندما ثبّتَ ابن حمادي الأصغر آخر حجرة "تيفْكْرتْ" على الحويطة قال أوسطهم " لا أظن أن كمية ماء الجير هذه ستكفينا".
كانت هالة القداسة تظلل جميع أنحاء الضيعة حينما أفاق سكانها ورأوا تحت شجرة الخروع حويطة رحمون، أما أبناء حمادي فقد بُهتوا حينما رأوا أن لون الحويطة قد أحيل إلى الأخضر...تبادلوا فيما بينهم النظرات والتهم أيهم طلا الحويطة بالأخضر.
فرحت زائرات سيدي البارودي بحويطة سيدي رحمون، وأصبحن يستهللن طقوس الزيارة بالعروج على سيدي رحمون...يربتن على حواف الحويطة، يدرن حولها سبع دورات تامّات.. يدخلنها ويضعن شمعة في الحيّز المخصص لها...وحين مغادرتها يعلقن قطعة قماش حمراء وفاءً لفستان السلطان الذي لم ترتده عْوالي أبدا.
" المقاول نورالدين، قام بكل ما يمكنه القيام به للحصول على مشروع الطريق المار بقرب سيدي البارودي، دعا عاملين من عمال ديوان الترقية لمأدبة عشاء كلّفته الشيء الفلاني، اشترى أضحية العيد هدية لسكريتيرة رئيس البلدية، الليلة الحمراء التي قضاها محاسب الخزينة في حانة المدينة كانت على حساب نور الدين...غير انه في بداية مشروعه هذا وقفتْ له حويطة سيدي رحمون بالمرصاد. قالت له أمه " أنا بالله وبالشرع عليك...إلا سيدي رحمون، لو مسست شعرة منه فلا أنت ابني ولا أنا امك" ...تردد نور الدين كثيرا...خاف نور الدين..وفي آخر المطاف عمل بنصيحة زوجته وأحال أمر الحويطة لسمير الخارج من السجن لتوه بعد عشر سنوات قضاها : يقول انهم سجنوه خطأ." هكذا يحكي بارودي الكوافير.





Share:

0 التعليقات:

إرسال تعليق