الجمعة، 3 يونيو 2011

الرسالة * (1)



كان أول من أقابله من بين جمع من المدعوين للمشاركة في المسابقة وكان يحمل محفظة و كأنه لا يزال طالبا، كان بمحفظته كمُّ من الوثائق وخارطة الجزائر، ظننته من أولئك الذين يهوون السفر و الترحال... و انفتح له قلبي فالأرواح جنود مجندة.اجتزنا المسابقة التي كانت شكلية... وبعد ما يقارب الثلاثة أشهر تم استدعاؤنا إلى المدرسة لبداية التكوين.
   وبدأ التكوين...دراسة أو ما يشبه الدراسة..تمارين رياضية و تدريبات مختلفة... ووقت فارغ، الكثير من الوقت الفارغ.. الكثير من الملل الثقيل. وبدأت العلاقات تتوطد...بدأت العصافير على أشكالها تقع، وكنت وحليم عصفورين يقعان على بعضهما...كان حليم صديقي.
 أذكر أنني كنت كثيرا ما اذهب إلى غرفته أو بالأحرى الغرفة التي كان يتقاسمها وخمسة من الزملاء، حيث كنا نقبع على سريره نسمع أغاني "أصالة"، جورج وسوف و أم كلثوم... كان حليم "سمّيعا" يلتقط النغمة الطربية و الكلمة  الجميلة ، مثلي غير انه كان أكثر إحساسا و تأثرا إلى درجة ذرف الدموع... كنت دائما اشعر أن هذا المخلوق يخفي سرا ما ، ذكريات أليمة ، ماض اسود أو شيئا من هذا القبيل.
في احد أيامنا الحالكة من ذاك التربص اللعين...وبعد المنادات المسائية حيث كنا نُجمَّع لتلقى على أسماعنا تعاليم سرمدية  سئمنا من تكرارها، وقبل الانصراف يُوزَّع البريد، قال حليم:
-         " كل الناس يستلمون الرسائل إلا نحن وكأننا مقطوعين من شجرة ، لا احد يفكر فينا أو يتذكرنا " و غنى " متغربين إحنا، متغربين آآآه ، تجري السنين و إحنا، تجري السنين... لا أحد قال عنا خبر يفرّحنا ، ولا احد جاب منك كلمة تريّحنا "
تم الانصراف من التجمع، وذهبت كل مجموعة إلى غرفتها لتستريح من عناء اليوم !!! ونحن في الطريق إلى الغرف خطرت ببالي فكرة ابليسية... قررت أن اكتب لحليم رسالة ليستلمها مثل الآخرين في تجمع مسائي ما ، ويفرح بها وينسى فكرة انقطاعه من شجرة.
دخلت الغرفة...أخرجت ورقة وقلما وبدأت في رسالة ستبعثها فتاة لحليم ، سألني عبد الكريم ، احد الزملاء، ماذا تكتب، حكيت له القصة فأخرج لي مباشرة صورة  فتاة ، كان لعبد الكريم هذا آلاف الصور، ملايين الصور ، فتيات عرفهن أو واعدهن ...وأخريات أغرقهن في بحرمن أكاذيبه ومنهن من أطمعهن بزواج وهمي...أعطاني الصورة ...تأملتها .. لم اهتم لجمالها أو بشاعتها...وإذا بزميل آخر في الغرفة، محمد، يقترح علي تسميتها "نصيرة"... إلتفّ حولي زملاء الغرفة وبدأ كل واحد يدلي بدلوه ، هذا يقترح عبارة ، وذاك يلح على وضع الخطأ الإملائي حتى يكون الانطباع أن الفتاة ذات مستوى متدنٍ...وتمت كتابة الرسالة.
أعدت قراءة الرسالة .... كانت عبارة عن موعد تضربه نصيرة لحليم يوم خميس قادم أمام المسبح البلدي...تُعبِّر له فيها عن إعجابها به من أول نظرة وقد رأته بمعطفه الأبيض الأنيق...لقد خططت الرسالة  بيدي اليسرى حتى  لا يتعرف حليم على خطي كما اجتهدت في ملئها بالاخطاء النحوية و الإملائية وعن عمد جعلت الأسلوب ركيكا ، طفوليا...ولا أنسى عبارة الختام التي أوحى لي بها  محمد، قال لي أن من عادة الفتيات أن ينهين رسائلهن بعبارات تصف مدى ولعهن وشوقهن وهيامهن وكل هذه التفاهات...مثل: العاشقة الولهانة ، عاشقة القمر... حبيبتك إلى الأبد (رغم أنها لم يسبق أن كلمتك آو حتى رأتك)...الوفية لك (الكذب الصُّراح) ، اقترح علي محمد أن اكتب العبارة الختامية بالفرنسية ، فنصيرة هذه ترغب أن يعرف حليم عنها أنها مثقفة !!!، فكتبت : je t’aime pour toujours   غير أن محمد هذا كان بن جني فعلا ، قام بتصحيح الخطأ مقترحا علي آن اكتبها هكذا: je tame pour toujor.
و بُعِثتْ الرسالة ...وتمر أيام قليلة ...و بينما نحن في تجمع مسائي، وقبيل الانصراف بدأ توزيع الرسائل...و يُنطقُ اسم حليم ملعلعا في سماء المدرسة !!! ، و يخفق قلبي ويتبادل زملائي في الغرفة النظرات.... ينطلق حليم مسرعا نحو المنادي... يستعِدّ، يقدم التحية و يستلم الرسالة...يقلبها وهو عائد لمكانه في المجموعة... يفتحها خفية و أنا اختلس إليه النظرات...ونحن في طريقنا إلى الغرف،، قلت له: بالبركة عليك الرسالة يا حليم ، ها أنت تستلم رسالة، أظنك لست مقطوعا من شجرة الآن.
-         لغز محيِّر يا سعيد... والله لغز.
-         ما الخبر؟
-         سأحكي لك لاحقا.
قبيل المغرب ...بعدما استراح الجميع من عناء الجلوس طيلة اليوم !!! اتجهت نحو غرفة حليم،دخلت فإذا بي أجد الزملاء ملتفين... كل يبدي رأيه في الرسالة ...وحليم حائرا،.. منهم من قال له: لا تشغل بالك كثيرا، لن تخسر شيئا إذا ذهبت يوم الخميس للمسبح البلدي و قابلتها.
آخر قال:لا شك أن هذه البنت مخبولة أو مشعوذة تريد أن تعمل لك عملا ... وثالث قال: أنا متأكد أنها لعبة يريد احد الزملاء لعبها معك... استفسرته عن الرسالة مبديا جهلي التام بما يجري، انتحى بي جانبا و أعطاني الرسالة ورحت اقرأ مبديا تعجبي من ركاكة الأسلوب و الكم الهائل من الأخطاء ... وضحكت عند قراءتي للعبارة الفرنسية ... ضحكت فعلا وليس تظاهرا...
سألته: هل تعرف هذه الفتاة؟
-         و أنى لي معرفة جَدِّها؟  وأخرج الصورة من جيبه،،، المسكين حليم ... هاقد شغلت الفتاة حيزا من حياته ...جيبا من جيوبه.
قلت : وما المشكلة إذا؟
-         لست ادري يا سعيد، ولكن الأمر محير، ما رأيك أنت ؟أنا لا أثق في احد غيرك، قد قيل لي أنها لعبة يلعبها معي احد الزملاء... ولكني لا ارى هذا الرأي ،  الم تلاحظ طريقة التعبير ؟ الأخطاء؟ وهذا ليس بأسلوب أي احد من  الزملاء.
-         قلت: لا تعطي للأمر أكثر من حجمه... لقد استلمت رسالة وهذا هو المهم... هناك احدهم قد فكر فيك وأنت لست مقطوعا من شجرة كما كنت تظن... في رأيي آن هذه الفتاة قد رأتك فعلا فسلبَتْها وسامتُك وأناقتُك، خاصة انك كنت ترتدي معطفك الأبيض الذي اشتريته من عين وسارة !!! شخصيا لو كنت فتاة ورايتك بمعطفك الأبيض لهمت حبا بك.
ابتسم حليم... ورأيت بريقا يشع من عينيه... قال:سأكون في الموعد يوم الخميس ، قررت آن أقابلها.
وجاء يوم الخميس...نهاية الأسبوع حيث يمكننا مغادرة المدرسة بحرية طيلة يومي الراحة... وبدأ شعور بالندم يسري في داخلي...أحسست آن الأمور انقلبت إلى جد...احترت كيف أعالجها...كيف أتدارك الأمور، فحليم قد استعد للموعد...اغتسل و ارتدى أجمل ما يملك من ملابس، وطبعا كان المعطف الأبيض اجمل ما يملك من ملابس...وكان عطره يملأ أجواء المدرسة ، وشعره مدهونا وبراقا.
كنت في غرفتي ، وكنت اسمع من خلالها تشجيعات زملائه في الغرفة...ضحكاتهم...وسمعت احدهم يقول له:" حينما تقابلها بلغها سلامي واسألها إن كانت لها صديقة ؟"
و آخر يقول:" شهر رمضان على الأبواب، ألح عليها أن تدعونا للإفطار أوعلى الأقل تحضره لنا".
الأمر فعلا انقلب إلى جد...لابد لي آن افعل شيئا،فالموعد قد حددته نصيرة الوهمية على الساعة الحادية عشرة، وحليم سيخرج الآن...كان من عادتنا آن نخرج سوية لنتجه صوب أي مقهى...نشتري كما من الجرائد، نزور المكتبة الوحيدة بالمدينة... وكنت قد علمّت حليم كيفية تعبئة الكلمات المتقاطعة بالفرنسية كوسيلة لتحسين مستواه اللغوي المخجل  .
أما اليوم فحليم سيخرج لوحده، لا شك آن قلبه سينفجر من تسارع الدقات... أظنه لم يعش هكذا تجربة من قبل.
بدأ الزملاء يخرجون من المدرسة جماعات وفرادى ، ورأيت حليم يمشي لوحده، تبعته وبدأنا نمشي سوية، قلت: ألا زلت حريصا على الذهاب؟
قال: بالتأكيد.
قلت: اعمل برأيي واصرف نظرك عن هذا الموعد التافه، تُراها فتاة طائشة استهزأت بك.
قال: سأذهب، لن أخسر شيئا.
قلت: اسمعني يا حليم ، لا تذهب ليست تلك الرسالة إلا لعبة  قام بها احدهم ، صدقني.
توقف حليم ، نظر إلي نظرة جادة ، مستفسرا: من؟
قلت : احد الزملاء أراد أن يمازحك فبعث لك بتلك الرسالة  بحسن نية.
كسَت وجه حليم مسحة جد مشوبة بغضب ظاهر وقال بنبرة جديدة عليّ : اسمع يا سعيد ، إما آن تقول لي مَنْ أو تنسى أن لك صديقا اسمه حليم...قل لي الآن من كتب لي الرسالة؟
ترددت...خفت من ردة فعله، فحليم كثير الضحك لأتفه الأسباب كما يغضب لأقلها أيضا ، مرهف الحس و العاطفة صديقي حليم.
قلت : أنا من كتب لك الرسالة .
   بينما كنا نمشي جنوبا...استدار حليم شمالا وغاب... لم يقل كلمة ..ولا حرفا....فقط غاب.
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*: هذه القصة واقعية، جرت احداثها سنة 1997 بمدينة قصر الشلالة، تيارت، الجزائر
Share:

هناك 4 تعليقات:

  1. "يتبع" ليه طيب؟؟
    كنت كملها على طول

    فى انتظار الباقى

    ردحذف
  2. الأخت موناليزا، مرحبا بك في يوميات الوجع و الحنين.
    يتبع لسببين:
    أولا لأنها طويلة فخشيت ان ارهق القارئ.
    ثانيا لأحضى بتعليق مثل تعليقك هذا.

    أشكرك على المرور.
    تحياتي ومودتي

    ردحذف
  3. قصه جميلة اترقب لنهايتها

    ردحذف
  4. لقد نشرت الجزء الثاني يا أيها الغير معرف.
    أشكرك على المرور.

    ردحذف