الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

اكْــــحَيْل


- لديك شبه كبير بفوازالميزر، قلتُ.
- ألم تجد مخلوقا آخر غير هذا ؟ سأوافقك بشرط أن يتخلى لي عن "سمرة".. رد عليّ محمد كحيل.
أنتم طبعا لا تعرفون محمد كحيل، كحيل بتسكين الكاف وفتح الحاء مع ألف همزة مضمومة ومُضمرة حتى لا تنطقونها كحيل بالفتح على طريقة المشارقة....لكنني أعرفه.
   كحيل جالس عند عتبة قاسم صاحب الحانوت، دخلنا الحانوت وأعطانا قرعة ليموناد سوداء اللون، أعطيناه الدينار ورد لنا أربعة دورو، قال قاديرو الضلعة : أعطنا كأسا.
- "وهل أبقيتم لي كأسا واحدا؟ ، لقد سرقتموهم كلهم، اذهب واحضر كأسا من بيتكم." رد عليه قاسم.
خرجنا من الحانوت، انكببت على فنجان كان على يسار كحيل أريد أن أفرغ فيه الليموناد، شد كحيل يدي " لا، لا...لا تشرب في هذا"
  قلت: قاسم لم يرد إعطاءنا كأسا.
دخل الحانوت وأحضر لنا كأسا بلاستيكيا أصفر اللون باهتا.كانت على يمين كحيل قنينة خمر ...كحيل يحب الخمر ويحب فنجانه ذا العروة البنية ولا يحبني ان أشرب الليموناد في فنجانه.
جلست وقاديرو الضلعة نحتسي المشروب الغازي وعن يسارنا كحيل يحتسي بين الفينة والفينة خمرته والناس بين غادٍ وآت ...عادي جدا...كحيل يحب كل الناس وكل الناس تحب كحيل.
  في ظل "البوست" جالسين نلعب الدامة، لم يبق لي سوى حجرة واحدة ، أما بارودي ولد بوناب فقد بقي له ثلاث غير انني سبقته واحتللت وادي الثمانية قلت: "تعادل !!"، رفض بارودي مصرا انه سيفوز. أعدت عليه " لا تكن عنيدا، تعادل !"...في الواقع ، لم أقل تعادل ولكن قلت: "مطاولة". غير انه تمادى في مناوراته غير المجدية محركا الاحجار بيمناه ويسراه تنش الذباب عن أصبع قدمه اليسرى.
- ما بها إصبعك؟
- دهست عتبة الدار.قال بارودي.
بينما كان بارودي يجرب كل خططه للإطاحة بآخر حجر لي، وبينما كنت مكتفيا بتحريك حجرتي الوحيدة على طول وادي الثمانية، طلّ محمد كحيل من هناك قرب جنان العيد...لابسا سرواله "أزرق مارسيليا" ونصفه العلوي عاريا.
جلس في ظل البوست وكانت بيده قصبة ، قال: إيتني بمسمار.
ليس من الصعب أن تجد مسمارا في اكوام نفايات "التابتي" المرمية قرب سكة الحديد من الجهة اليسرى للبوست، في لحظة عدت وبيدي ثلاثة مسامير وقد أشعل بارودي نارا. وبدأ كحيل يسخن القصبة على النار الملتهبة، يدوّرها داخل اللهب ثم يمسحها بيده ثم يعيد تدويرها وقد رمى أكبر مسمار في النار.بواسطة المسمار ثقب القصبة ستة أو سبعة ثقوب متساوية المسافة فيما بينها...ثم أعاد تدويرها على اللهب ،قال " للقضاء على الشعيرات الظاهرة في حواف الثقوب".
كان الزمن صيفا وسراب الهجير يجعل من بيوت "التحاتة" تتراقص. وغير بعيد عنا كان مربوطا حمار عمي الكبير، حماره الأبيض الوحيد في الكون، كان ينهق نهيقا شبقيا وقد رأى خيال أتان يتراقص بفعل السراب من جهة "التحاتة" قرب حويطة سيدي لخظر.أما انا وبارودي فكنا مبحلقين نرى جميل صنع كحيل، ويد بارودي اليسرى منهمكة بنش الذباب... 
قال كحيل " سنٌديرها آخر دورة ونعيدها سيرتها الأولى، وغمز بعينه اليسرى".
محمد كحيل يحفظ الستين ويعشق الخمرة و غناء الرعاة. اخرج سكينا عتيقا وبدأ يصقل فوهة القصبة ثم كآخر لمسة وضع الفوهة في اللهب. مسحها وقال : " يا بسم الله !!! "
كنا مشدوهين لا يتحرك فينا سوى أعيننا ويد بارودي السالفة الذكر والذباب الملهوف على الإصبع المتقرحة.ثبّت كحيل القصبة على الطرف الايسر من شفتيه، اخذ نفسا، وشهقت القصبة، وسكت كل شيء...سكت الحمار الأبيض، والجنادب لم يعد يهمها شدة الحر سكتت بدورها والذباب المهتم بالاصبع أصغى السمع هو كذلك...وتماوج اللحن الحزين المنهمر من قصبة كحيل عبر سراب شهر اوت. 
كنا نرى في عينيه بريقا كالاستعداد للبكاء، قال" هذا استخبار أغنية أنا العربي ولد الغابة والجيبل"فجأة قمت وبكل ما أوتيت من قوة رميت بحجر كبير تجاه سحليّة مزركشة غير اني أخطأتها فانسربت لجحرها..
قال بارودي مستهزءا :" حمار !!! " وحمل حجرا مسننا وقال: " قل لها تخرج الآن..قل لها..والله أقطعها نصفين، إذا اردت الرمي فارمي بهذا ، الحجر الحُرّيف وليس أي حجر كان"
قلت موجها كلامي لكحيل: اضرب لنا أغنية" واد الشولي". أعاد كحيل تثبيت القصبة على شفتيه، واخذ النفس المعتاد وانطلقت بحة القصبة وكأنها نابعة من روح كحيل المتشققة ، كانت القصبة تشتكي ولم يكن لي من سبيل لمواساتها سوى شعوري بالقشعريرة. قلت: من علّمك العزف على القصبة؟
- "الهم والتطراد والمباتة برا" قال كحيل.
سكتُّ سكوت الأبله ونظرت إلى بارودي المنهمك بإصبعه و الذباب بينما اخرج كحيل من جيبه طرف غصن شجيرة دفلى وبسكينه فلقه فلقتين طوليا. ثم قام بقص فوهة القصبة على شكل ربع دائرة وأدخل فلقة الدفلى.
قال: الآن لم تعد القصبة قصبة، الآن حوّلتها إلى "بيبّو"
- وما الفرق؟
- قال : سترى، بالبيبّو يمكن أن أعزف لكم ألحانا هندية.
لم يضع كحيل القصبة في طرف شفتيه هذه المرة، ولكنه ادخل البيبو في فمه، وراح ينفخ ألحانا من عالم مغاير، عالم ليس كهذا العالم.كانت عيناه مغمضتين وكلما فتحهما لاح لي فيهما بريق دمعتين تختصران كل شيء.محمد كحيل يقف الآن هناك رفقة شاب كان يمكنه أن يكون حفيده، ويمر الناس يحيونه ويرد التحية بابتسامته المعهودة الشبيهة بابتسامة 'فوّاز الميزر".
هل سبق وقلت أن الناس كلهم يحبون كحيل؟؟ اظنني قلتها.
كحيل الذي سأطير فرحا يوم أضع ذراعي على كتفه ونحن متسامرين على ضفة وادٍ من أودية الجنة.

Share:

0 التعليقات:

إرسال تعليق