الخميس، 30 ديسمبر 2010

ذاكرة مذبوحة

مسكني من يدي ومشينا ، و كانت يده كبيرة و أصابعه خشنة . مشينا حتى ظننت أننا لن نقف ، و كان يقول : " نذهب للمقبرة نزور أختك سعدية و أخويك إبراهيم و الهادي ، أمك اسمها أمينة ، و أنا أبوك ، أبوك القاسم ."
  كنت اسمعه غير أن عينيي كانتا معلقتين بأعالي الكروم على طرفي الطريق الأسود حيث توجد حبات سود تلمع بفعل ضوء الشمس الشديد...
قال : أتريد قليلا من التوت ؟
وقصد كرمة وقال : " هذه شجرة توت . إنها مثل كرمة العنب في الدار، و لكنها لا تطرح عنبا بل توتا ، تذكر هذا يا احمد.
امتدت يده إلى أعلى و رأيت الشعر المكوّر على ساعده ، وسمعت خشخشة أوراق التوت الرمادية ، و كانت يدي تشد في سرواله الأسود . وجاءت يده أمام صدري مفتوحة عليها حبات توت غلاظ ، ورأيت حبة تسقط من يدي ، انحنيت احملها إلى فمي فنهرني : " لا لا ، ارم عنك ، الم تر أنها وسخة ملطخة ؟ ألا يكفيك ما بيدك ؟ لو كانت أمك هنا ... و سكت ...ثم قال : "هيا بنا لقد أضعنا من الوقت ما فيه الكفاية ، ثم إن الإكثار من التوت يؤلمك ، و كانت يده فوق بطني و أسنانه تظهر.
ومسكني من يدي و مشينا و كنت آكل التوت... كان حلوا و حامضا ، و ليس حلوا وليس حامضا ، و حين وصلنا الباب كانت يداي فارغتين و أصابعي تلتصق ببعضها .
قال : " هي ذي المقبرة ."
كنت أرى منة خلال الباب أباءا آخرين ، كانوا يدخلون ، بعضهم مرفقين بأمثالي ...سيارات كبيرة ،، رمادية و أخرى بيضاء وأخريات سوداء ، ونساء يشبهن خالتي الزهرة يجلسن القرفصاء مكبوبات الرؤوس ، على بعضهن ملاءات بيض تماما كخالتي الزهرة.
مررنا بجانب أب غريب الأطوار ، كان يمتص عودا ابيضا قصيرا و ينفث غبارا ابيضا كغبار قدرنا ، و حين تجاوزناه التفت و رايته ينظرني ، و أغمض عينه اليسرى و ظهرت أسنانه ، أدرت وجهي بسرعة و شدت يدي سرواله وقال :" لا تخف..ألا ترى انه يبتسم لك..انه يمازحك لا غير ..وقد غمزك بعينه."
كانت يده لما تزل تمسك بيدي ، وجلس القرفصاء وشدني إليه أفعل مثله ، وقال: " هنا ترقد أمك أمينة ، عن يمينها ، هنا ،و أشار بيده سعدية وإبراهيم ، أما هنا على اليسار فيرقد الهادي " و سكت . رأيت إصبعه و رأيت التراب مكوما.
قال :" هم أربعة ، وهنا أمك أمينة "
كان فوق احد الأكوام طست ابيض كالذي يشرب منه كلبي "راكس" ، وفي الأمام مغروسة كرمة صغيرة أوراقها رمادية ، وكانت ركبتاي تؤلمانني وراسي ساخن مثل الإبريق .قال : "هذا الجيرانيوم عمره ثلاثة أشهر ، كانت امك تفضل الجيرانيوم ، و قد غرسته بيدي يوم جمعة بعد....." ولم اعد اسمع صوته ، وبدا يتنفس بسرعة...كنت انظر إليه...ووضع يدع على عينييه... وأنا انظر إلى الشعر المصطف فوق فمه..وظهر لي ذقنه مقطبا بينما كان يتنفس بسرعة ثم دعك عينيه وكانت رماديتين تحدقان في وقال :" يا رب..."  وسكت ، وجاءت يده وحطت فوق رأسي وبدأ الماء يسيل من عينيه ، وكانت رماديتين أكثر من ذي قبل وكان على الشعر المصفف فوق فمه قليل من التراب مثل التراب الذي نفضته خالتي الزهرة من على التلفاز بالأمس ، وقال : " ستشفى ، ستبرأ وتكبر يا احمد ، و إذ ذاك يمكنك فهم كل شيء ،،، سيشفى ولدي ،، وتذكر أمك أمينة التي ترقد هنا... لماذا يا رب لا تجعله يذكر؟ "

قمت واقفا أريد العودة إلى الدار لمشاهدة التلفاز ، قال : " ما بك ؟ أتريد أن نعود للدار ؟ ألم تعد ترغب في البقاء مع أمك و إخوتك ؟ انظر ، أخوك الهادي يرقد هنا وأشار إلى كومة التراب الصغرى ما بين الأربعة ، وكان إصبعه غليظا مثل حبة الجزر ولونه رماديا مثل لونها.
قال : ألا ترغب في البقاء قليلا ؟ أتذكر حين كنت تلاعبه وتسرق منه لعبته الزرقاء وكنت تساعده على الوقوف ولم يكن يقدر؟
وبدا يتنفس بسرعة ثانية..ولم تعد عيناه الرماديتان تحدقان في..كان رأسه منكبا ويده على جبهته و كنت اسمعه يتنفس بسرعة ،  لم يدعك عينيه ثانية بينما زحفت يده على كومة التراب ، وسمعته يتكلم لوحده ، لم أفهم كلامه . في الواقع لم أرد الفهم ولا رؤية أكوام التراب ، كل ما كنت أريده  هو مشاهد " الغابة الخضراء "(1) ، أعود إلى الدار و أشاهد الغابة الخضراء.
قام واقفا ولم أعد أحس بالحرارة فوق راسي وقال : " تريد العودة إذن ؟ هيا لنعد "
ومسكني من يدي ، ومشينا وعدت أحس بالحرارة فوق راسي...تجاوزنا الباب و ابتعدت أكوام التراب وقال ملتفتا : " هناك يرقد أخوك الهادي ، عمره الآن عام ، و بجانبه أمك و بالجهة اليمنى سعدية وإبراهيم ...لا تنسى ذلك أبدا ... و أنا أبوك. "
وجاءت أشجار التوت على يمين الطريق و يساره...لم أعد أرغب في أكل التوت ، كل ما رغبته هو مشاهدة الغابة الخضراء.كان يمسكني من يدي و ينظر بعيدا ويقول :" ستكبر وتفهم كل شيء...سأدعو لك الله ليل نهار كي تبرا و تسترجع ذاكرتك...لتذكرني وأمك وإخوتك..لن ادع احدهم يمسك بسوء..سأكون معك أينما حللت...سأكون ظلك " ونظر إلي ورأيت أسنانه مصطفة..كان يبتسم ، وتوقف وتوقفت ، انحنى تجاهي وجاءت يداه نحو وجهي ، وحطتا فوق خدي وقال : " عدني يا احمد ، عدني أنك ستتذكر كل شيء ، عدني فلم أعد اقدر على رؤيتك هكذا ، عدني انك ستتذكر أمك أمينة ، لماذا لا تذكر سعدية ، إبراهيم ، الهادي ، إخوتك يا احمد... حاول يا بني... لقد ذبحوهم أمامك أليس كذلك ؟ هيا يا احمد تذكّر.."  وسكت و ارتعدت شفتاه و اتجهتا نحو جبيني و التصقتا به وقام واقفا.
مسكني من يدي ومشينا ، ومسحت البصاق عن جبيني غير أني لم أجد بصاقا بيدي التي مسحت بها ، ومشينا و كان يقول " أنا أبوك ، و هم ذبحوا أمك و إخوتك ، كلهم ، الأربعة بما فيهم الهادي ، كان لا يزال يحبو... تذكر يا أحمد.. قيل أن رأسه قطعت بساطور و سقطت متدحرجة إلى أن لامست كتفك و أنت مختبئا تحت السرير... أصحيح ذلك ؟ حاول التذكر يا أحمد..... لماذا يا رب لا يمكنه التذكر؟.
وقف و انحنى إلي و قال مبتسما : " الآن سأجعلك تتذكر كل شيء ... اسمع..كان الليل..وكانت الظلمة وانتم حول مائدة العشاء...موافق؟
وكنت أنا واقفا امسح ذراعيي بالمنشفة الوردية بعدما توضأت للذهاب إلى المسجد...موافق؟
وقلت لكم : يمكنكم العشاء من دوني فربما أتأخر بعد الصلاة ، وقلت لك أنت لا تأكل حصتي من لحم الدجاج ، ثم خرجت وتركتكم ..موافق؟
هـه ؟ قل لي ماذا حدث بعدي ؟ وسكت ... وبقيت عيناه تحدقان في و لم تكن رماديتان..ووقف وبدأنا نمشي ولم يعد يقل شيئا ... وبدأت البيوت تقترب شيئا فشيئا و بينما كان يمشي صامتا  كنت أغني أغنية "الغابة الخضراء".
ـــــــــــــــــ
(1) الغابة الخضراء : فيلم كرتون عرض في التلفزيون الجزائري.
Share:

هناك تعليق واحد:

  1. ما أروع اسلوبك، انها في غاية الألم،،تقديري لقلمك المبدع

    ردحذف