الخميس، 30 ديسمبر 2010

انسلاخ

لو أنني مشيت كعادتي في الطريق الشرقي لأنهيت جولتي الليلية و عدت إلى البيت ، ووجدت ابنتي في سابع نومة و الزوجة الصالحة في انتظاري كعادتها. ولو أنني إذ مشيت لم أعقِّب عاملا بنصيحة جدتي "إذا مشيت لا تلتفت و إذا اضطررت لذلك، التفت كلية و لا تبكي فالرجل لا يبكي" لكنت سعدت بحفيف أوراق البلوط عبر حافتي الطريق و عدت إلى البيت سالما كعادتي غير غانم كطبعي.و لكنْ و الحال غير ذلك، كان مكتوبا في الأزل أنني سأختار الطريق الغربي،،، تمدد الطريق قبالتي فمشيت أمارس جولتي الليلية المعتادة ، و كون النسيان ذو وجهين ، و أن لكل منا حظ يوما ما في أحد الوجهين، كان حظي الليلة و جه النقمة منه.حلّت بي نقمة النسيان فنسيت نصيحة جدتي ، و بينما أنا و حيد بالطريق الغربي المهترئ، أمشي في سلام ، و لما لم يناديني أحدهم من ورائي ، و لم يحدث ما يثير الانتباه أمامي ، إلتفتُّ .يحدث أن يلتفت الإنسان لا لشيء إلا مجرد الالتفات. ألتفت فتعثرت رجلي في حفرة فصرخت ساقطا . و جاء الشرطي.. ثم حل القانون.
-
قم و اتبعني إلى مركز الشرطة ، أنت متهم بالصخب الليلي.
قال الشرطي ذلك ثم مطط لسانه و أردف " tapage nocturne !!!! " .

بصعوبة وقفت و تأوهت، صرخ في وجهي - أغلق فمك !! غلقت فمي، بينما كان القانون واقفا مشبكا ذراعيه على صدره، غاضبا،لم أدر إن كان غاضبا مني أو لأجلي ، و لم أدر أمن الحكمة أن أبقي فمي مغلقا أم أواصل التأوه، كان في جعبتي ركام تأوه و كانت شهوتي للصراخ عارمة، غير أنني خفت أن يزيد ذلك من غضب القانون فأحجمت لأنني في الحقيقة لم أكن ادري إن كان غاضبا مني أو عني.دفعني الشرطي دفعة إلى الأمام كدت اسقط على وجهي جراها، و القانون لما يزل غاضبا،،، مني أم منه؟؟؟ الله أعلم.استدرت إلى الشرطي،،،لماذا تدفعني هكذا؟؟؟؟؟
أغلق فمك و امشي !!!.ألقيت نظرة شكوى إلى القانون الذي ازداد تقطيب حاجبيه حدة، و اسودت هالة الغموض المحيطة به، و غلقت فمي و نكست راسي، و رنت العبارة الفرنسية في أذني فخفت و مشيت.كنا ثلاثة، القانون و الشرطي و أنا، و لمن لا يعرفني اسمي مواطن، في صدري بركان صراخ مستعد للعد التنازلي غير أن فمي مغلق بأمر من الشرطي و القانون أمامنا يمشي غاضبا،،،لست ادري ممن،، في الواقع لا أحد يعلم ذلك،،، و قد ظننت للحظة أن الشرطي مثلي يحسب أن القانون غاضبا منه.

-
قلت:أنا لم ارتكب جرما لتعاملني هكذا معاملة،،، كنت أمشي في سلام و ،،
-
أغلق فمك،،،قلت لك أغلق فمك... ألم تصرخ ؟؟؟؟  ألم ترتكب الصراخ الليلي؟؟؟؟.
 للحظة كلمح بالبصر قفزت إلى ذهني عبارة " السعال الديكي" و أوشكت أن ابتسم في وجهه فأزيده غيضا و أزيد القانون غموضا على غموض، قد يحدث في أحلك الظروف أن ينفجر الواحد ضحكا دون أن يدري ، و من ذاق أحلك الظروف أيقن أن من البلية ما يدفع إلى القهقهة.

-
قلت: كنت امشي في سلام و،،،
-
أغلق فمك!!! قلت لك أغلق فمك!! ألا تفهم؟.أحسست برغبة شديدة في البكاء، و لكنني جاهدت نفسي على أن لا تسقط دمعة واحدة مني أمامه، حاولت أن أكون رجلا لا يبكي مثلما قالت جدتي و قلت في نفسي :
 لماذا لا يتركني أكمل له الحكاية؟ لو يمنحني لحظة واحدة،، لحظة واحدة فقط . لماذا كلما نطقت يصرخ: أغلق فمك؟؟؟ أتراني أطيح من قدره كلما قلت: كنت امشي في سلام؟؟؟  فلربما يوجد صنف من الناس لا تعجبهم عبارة "كنت امشي في سلام"، احتمال وجود هذا الصنف من الناس و هذا الشرطي منهم،،، أكيد أنه منهم و سأتأكد من ذلك. و قلت:- يا أخي،،، لماذا تعطي الموضوع اكبر من حجمه؟؟؟ كنت امشي في سلام و،،،
-
عليك اللعنة!!! ألم أقل لك أغلق فمك و امشي؟؟؟.و دفعني دفعة كدت ارتطم بالقانون إثرها لولا أنني تمالكت نفسي... لم يستدر القانون ليلاحظ ما يحدث وراءه و اكتفى بالوقوف غاضبا، ربما مني هذه المرة كوني أزعجت الشرطي.
قلت في نفسي :  لا نقاش ..إنه منهم....لا يحب عبارة " كنت أمشي في سلام ".

و بت ليلتها بالمركز، او بالأحرى انتظرت الصباح، و يا لكسل الصباح بالمركز!!! ظننته لن يأتي أبدا الصباح ، و أّرْكبتُ سيارة لتُقلّنا إلى السجن.وفتح السجن فاه فاغرا يبتلعني... أُدخلت مكتبا عن اليمين و جاء السجل المرقوم : اسمك، سنك، عنوانك . أجبت على كل الأسئلة بامتياز و ارتباك، لم يكن الشرطي معنا و كان القانون دائب التكشير،،، أيقنت انه حانق إثري،،، و حملقت في الوجوه الحاضرة.     كان العون المكلف بالتسجيل شابا أنيقا، وسيما، يضع نظارتين جميلتين، غير أنني كرهته، لأنه من ذاك الصنف الذي يبالغ في إظهار تأدبه أكثر من اللزوم، و يقفل أزرار قميصه عن أخرها، و يحتمل الاختناق على أن يرتدي قميصا دون ربطة عنق. و مما أكد لي انه منهم تشدقه في الكلام و قد كتب اسمي "مواطن" بدون ألف.أردت أن أصحح له خطأه و لكنني أيقنت انه سيتجاهلني ، فالصنف ذاك يتجاهل من يصحح له خطأ ما.قام واقفا، أقصد الشاب الظريف، وقال: هات إصبعك السبابة.قدمت إصبعي فصرخ في وجهي بغضب حاد: اليســــــــرى!!!!!

يا سبحان الله! لا حيلة لنا مع الناس ، هم هكذا ، خلقوا هكذا ، يطلبون أشياء و لا يصرحون و إذا استجبت لهم رفضوا صارخين في وجهك" اليسرى" ، عجيب أمرهم ، و أمر هذا الأحمق أعجب ، فلربما يظنني لا أبرح داخلا خارجا من السجن و انني افهم كل ما يدور بمخيلته القزمية. كان بإمكانه أن يطلب مني إصبعي السبابة اليسرى بأدب و هدوء ، فألبي له طلبه دون مشاكل ،، أن تمد إصبعك السبابة اليسرى ليس بالأمر الصعب.
 لا شك ان هذا العون معقد نفسيا ولم يصرخ في وجهي إلا لكوني فضحته حين اكتشفت خطأه اثناء كتابة اسمي . الم اقل انني كرهته؟؟؟؟ .شدني من يدي اليسرى و إصبعي ممدودة ، غمس طرفها في محبرة الختم الموضوعة على المكتب و بحركات آلية لا شك انه زاولها ملايين المرات ، ثم وضعا عل صفحة السجل الدافئ في خانة كانت تنتظرني ،،، و ضغط.

و فجأة... حدث ما لم أكن أتوقعه،،، إحساس جديد على نفسي المهزوزة،،، توقف الزمن عن صيرورته،، تجمدت حركات العون ماسكا بيدي اليسرى،،، توقف القانون مسمرا في مكانه  حاجباه مقطبان،، توقف التفكير عن محاولة معرفة ممن هو غاضب ،،، توقف كل شيء،، كل شيء،، توقف الشرطي في بيته و إبريق القهوة بيده و القهوة خيط معلق ما بين الإبريق و الفنجان، و توقفت الكذبة مبسوطة في الهواء ما بين شفتي زوجتي و سمع ابنتي.و قبعت إصبعي مضغوطة على السجل، و المداد برزخا بينهما،، ووحدها إصبعي تعلم ما بوسع المداد فعله، وراحت تنسلخ عن السجل على مهل، بالتصوير البطيء إمعانا في الفتق، تمارس السلخ على كل ذرة من كياني، و امتص المداد عصارة سلخها متقيئا على السجل. و حدث الفــــتق، و دبت الحياة من جديد فقد تمت عملية الانسلاخ بنجاح ... انسلخ المواطن مني و مُسختُ سجينا.... و عاد العون إلى وضعه جالسا و تنحنح القانون.و أخرجني عون آخر من المكتب قائلا: ما حكايتك أنت؟
-
قلت: كنت أمشي في سلام ..و ...،، و سكتُ مخافة أن يصرخ في وجهي.لم يصرخ في وجهي ، و ظهر لي أن العبارة لم تثر اهتمامه ..
، قال: واصل ، تفضل ، لك الحق أن تعبر عن كل ما يجيش بخاطرك على أن لا تتعدى القانون...تكلم ....احكي حكايتك.
و مشينا ، كنا ثلاثة، القانون و العون و أنا ، اسمي سجين لمن كان يعرفني ، استدرت مبتسما للعون و قلت: لو منحني لحظة،، لحظة واحدة  فقط.

-
قال: ما ذا تقصد؟؟؟
غلقت فمي و نكّست رأسي و مشيت ، العون ورائي و القانون أمامي يداه وراء ظهره ، غاضبا لست ادري ممن
Share:

0 التعليقات:

إرسال تعليق